سم الله و الحمد لله و الصلاة والسلام على أشرف خلق الله
عين القلب : ( 1 )
القلب المؤمن حاسة دقيقة جامعة تصبح آلة لتلقي العلم و استبصار المعلومات و استشفاف المغيبات على غاية من اللطف بعد ان يبرأ القلب من أمراضه في مصحة التربية .. و بعد أن تعنى به يد "الصحبة " و يصقله الذكر و يكشف الله عز و جل عنه غطاءه .. ليجد ما وعد المتقون بغخلاص النية من قدم الصدق المكتوبة في سابقة علم الله تعالى .
ما كل المؤمنين يعطاهم هذا الفتح القلبي بمقدار ما تنكشف الحجب الغيبية للعين القلبية .. و قد يكون طلب الفتح و التعلق به و التماسه بالدعاء و التضرع و الأذكار الخاصة حجابا عن الله عز و جل و فتنة .. فيصرف طالب الحق مريد الله عن وجهته .. فإذا هو قد زاغ عن قبلة الطلب و هي وجه الله إلى الحظوظ النفسية و المتاهات الكونية .. فيكون من الهالكين .
و إن من أعداء الله عز و جل و من كافة المشركين من يفتح الله سبحانه عليهم عوالمه الكونية فيطلعون على ما شاء ابتلاؤه و كيده و مكره منها .. فيغرقون في مشاهدة حقائقها .. و يصرفون عن طلب الحق و عن عالم النور إلى عالم الظلمات الكونية .. هؤلاء هم أصحاب الرياضات من يوكيين و غيرهم .. و يسمى الفتح عليهم " فتحا ظلمانيا " .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة له عنوانها " الظاهر و الباطن " : " طوائف كثيرة آل الأمر بهم إلى مشاهدة الحقيقة الكونية القدرية .. و ظنوا أن من شهدها سقط عنه الأمر و النهي و الوعد و الوعيد .. و هذا هو دين المشركين " . الرسائل المنيرية ص 251 .
أما أحباب الله ممن شاء الله أن يكشف عنهم الغطاء .. فإن عناية المولى الكريم سبحانه تسلك بهم فجاج مشاهدة " الحقيقة الكونية القدرية " و يتجاوزون مخاطرها و إغراءها .. لا يقفون مع شيء دون الله عز و جل .. شعارهم دائما كما يقول الشيخ عبد القادر : و إنك لتعلم ما نريد .
لنسمع إلى أهل الفن في الموضوع لكيلا يتوهم المتوهم أن الفتح و الكشف و عجائب القلب حديث خرافة .. أو أن مبالغة الصوفية و مجازهم و كنايتهم و لغتهم الغامضة سبح خيال .. و قد استدعيت للشهادة في الموضوع إماما يحظى بالثقة لأنه هو نفسه لا ينتمي إلى الصوفية و إن كان يعترف و يفتخر و يتحمد " بالقدر المشترك " بينه و بينهم . و سترى أن صاحب " القدر المشترك " أبلغ بيانا و أشد حرصا و أثبت كلمة في التأكيد على وقائع الفتح و على طور ما وراء الحس و العقل .. نستمع أولا إلى إمام صوفي .. و بعده إلى الإمام المشارك ابن القيم .
قال الإمام الغزالي : " الإيمان بالنبوة أن يقر بإثبات طور ما وراء العقل .. تنفتح فيه عين يدرك بها مدركات خاصة .. و العقل معزول عنها كعزل السمع عن إدراك الألوان .. و البصر عن إدراك الأصوات .. و جميع الحواس عن إدراك المعقولات " . المنقذ من الضلال ص 70 .
و قال : " و وراء العقل طور آخر تنفتح فيه عين أخرى يبصر بها الغيب .. و ما سيكون في المستقبل .. و أمورا أخرى العقل معزول عنها كعزل قوة التمييز عن إدراك المعقولات .. و كعزل قوة الحس عن مدركات التمييز " . المنقذ من الضلال ص 57 .
يقول الغزالي هذا في إثبات النبوة و الفتح الخاص بالأنبياء عليهم السلام .. و له في " الإحياء " حديث طويل عن فتح الأولياء و ما يعطاهم من العلم اللدني القلبي قامت عليه بسببه قيامة المكذبين منذ تسعة قرون ..